اتصلت العمة قبل قليل لتستعجل وصول ابنة أخيها إلى المستشفى. وقفت جميلة (اسم مستعار) أمام باب مصعد المستشفى تنتظر وصوله، لكن يبدو أن المصعد المخصص للزوار كان معطلاً. توجهت نحو المصعد الآخر الخاص بالعاملين في المستشفى. وقفت تنتظره مع سيدتين. كانت متحمسة لتزور ابنة عمتها التي أنجبت حديثاً. وصل المصعد. صعدت الثلاث فيه. ضغطت جميلة على زر الطبقة الثانية نيابة عن السيدتين وكبست على زر الطبقة الثالثة عن طريق الخطأ. كان من المفترض أن تضغط على الزر الرقم أربعة حيث غرفة قريبتها. خطأ غير مقصود قصّر مدّة مشهد بشع سيحدث لاحقاً.
في الطابق الأول انفتح الباب ودخل المصعد خمسيني بقامة ضخمة وشعر يشوبه الأبيض. عرّف بنفسه من دون أن يسأله أحد. قال بثقة: «أنا الدكتور الياس ض.. ونحن بالخدمة إذا احتجتم إلى شيء». قال كلماته مربتاً على كتف إحدى السيدتين.
خرجت السيدتان من المصعد في الطابق الثاني. كانت جميلة واقفة قرب لوحة الأزرار والرجل في آخــــر المصعد. وما إن أغلق الباب وتابع المصعد صعوده حتى سأل الطبيب جميلة عن اسمـــها، فأجابته. ثم سألها مجدداً عن اسم عائلتها، فردت عليه أيضا. بدا لطيفاً.
فجأة، اقترب الطبيب من جميلة التي كانت تحمل كيساً فيه فستان وسترة اشترتهما كي تلبسهما في عيد ميلادها الرابع والعشرين الذي يصادف بعد أيام عدة. كان الكيس معلقاً في كوع يدها اليسرى إلى جانب حقيبة يدها. وبكف يدها اليمنى كانت تمسك هاتفها الخلوي. اقترب نحوها بسرعة خاطفة، كأنه بخطوة واحدة صار واقفاً بالقرب منها. وضع يده اليمنى على رقبتها من الخلف ويده اليسرى على صدرها وقرّب وجهه منها محاولاً تقبيلها.
ذهلت الصبية من التصرّف المفاجئ غير المتوقع. صرخت فيه طالبة منه الابتعاد وحاولت أن تدفعه في اتجاه المرآة في آخر المصعد. ثم بدأت تشتمه بصوت عال.
كانت حركة المصعد بطيئة. حدث المشهد ولمّا يصل بعد إلى الطبقة الثالثة. عندما انفتح باب المصعد كان كأنه باب السماء الذي انشق أمامها. اندفعت راكضة نحو غــــرفة الممرضات التـــي تقع قرب صالون الزوار، وهناك انفجرت بالبكاء. بقي الطبيب في المصعــد، ضغط زر الطبقة الرابعة، كأن شـــيئاً لم يكن. أقفل باب المصعد وتابع صعوده.
سالت الدموع غزيرة. ومع أن جميلة فتاة عصبيّة في العادة إلا أنها نادراً ما تبكي. لم يكن الأمر إحساساً بالإهـــانة أو بالجرح الذي خلّفه التصرّف الأرعن. فالخوف، قبل أي شيء آخر، هو الشعور الذي تلبّسها. حتى أنه أنساها آلة الصعق الكهربائية التي تخفيها في حقيبتها طوال الوقت.
حاولت الممرضات أن يهدّئن من روعها. أعطينها ماء لتشربه. كانت ترتجف. وبعدما هدأت أخبرتهن بما حصل. عندما سألنها أكثر عرفن المعني. كان الياس ض.. الطبيب المُراقب في المستشفى من قبل «تعاونية موظفي الدولة»، وهو طبيب تخدير وإنعاش مسجّل في «نقابة الأطباء».
رفعت مسؤولة الممرضات سماعة الهاتف واتصلت بمديرة المستشفى لتخبرها بما حدث. نزلت الصبية إلى مكتب المديرة في الطابق الأرضي. في المكتب سألتها المديرة أن تروي لها ما حصل، فارتبكت. خجلت كثيراً. ثم انفجرت بالبكاء مرة ثانية قبل أن تتمالك نفسها لتخبر عن الموقف المشؤوم.
أوضحت المديرة أن الطبيب ليس من أطباء المستشفى وتصرّفت بمسؤولية على الفور. قررت على الفور منعه من دخولها. اتصلت أيضاً بالشخص المعني في التعاونية للإبلاغ عن الحادثة لكنه لم يكن موجوداً. طلبت مديرة المستشفى من الصبية أن تتقدم بشكوى في المخفر. لكن الصبية تمنّعت. فالذهاب إلى المخفر لتقديم الإفادة يعني معرفة الأهل وهذه مسألة لا تحتمل الإشهار في البيئة الشمالية المحافظة التي تتحدّر منها. خافت من ردّ فعل والدها تجاه الطبيب. كانت على يقين أن الموضوع، في حال تعميمه، لن يمرّ مرور الكرام.
بحث الجميع عنه من دون أن يجدوه. كان قد غادر المستشفى. فبحثوا عن السيدتين. حضرت إحداهما وأكدت اسم الطبيب وحادثة تربيته على ظهر زميلتها. سجّلت المديـــرة إفـــادة الفتاة. كتـــبت صفحة كاملة بما حدث ودوّنت اسمي الشاهدتين على الورقة.
بعدما انتهى ذلك، توجهت جميلة نحو غرفة قريبتها في الطبقة الرابعة حيث كان بعض الأقارب. كانت قد تأخرت عــــن موعدها الـــذي ضربته. وجهُها المتجهم كان يخبّر كثيراً عندما دخلت الغرفة. طلـــبت من طوني، أحد أقربائها، أن تحدثه على انفراد. فخــرجا معاً إلى البـــهو.
عندما حاولت أن تخبره بما حدث انعقد لسانها وبكت مجدداً. ظن الشاب للوهلة الأولى أن قريباً قد توفي. لكن بعدما فهم الموضوع اشتعل غضباً. سأل عن مسؤولة الممرضات وعندما أيقن أن الطبيب المتحرّش غادر المستشفى سأل عن رقم هاتفه وحصل عليه فاتصل به. رد الطبيب على الهاتف فسأله طوني العـودة إلى المستشفى بعدما عرّف عن نفسه، فردّ الطبيب بصلافة: «لم أفعل شيئا». وأقفل الخط.
اتصل به طوني مجدداً من دون أن تخلو لهجته من عصبية وغضب. وأمهله خمس عشرة دقيقة للعــــودة. عندها قال الطبيب: «إذا كان قد صدر شيء مني فأعتذر»، مؤكداً أنـــه بات بعيداً عن المستـــشفى. لكن طوني أصرّ على حضوره قبل أن يقفل الخط بنفسه هذه المرة.
يمرّ بعض الوقت ثم يتصل بطوني زميل للطبيب المتحرّش في التعاونية ليبلغه أن الرجل خائف من الحضور. لكن طوني أصرّ على مجيئه من أجل أن يعتذر من الصبية «وإلا فلن يمرّ الموضوع على خير». مرّ وقتٌ قبل أن يتصل الطبيب المتحرّش نفسه بطوني ليبلغه بأنه وصل المستشفى فطلب منه طوني الصعود إلى الطبقة الرابعة. فصعد هو وزميله الذي اتصل قبل قليل.
أصرّ طوني على الطبيب أن يعتذر من جميلة على الملأ أمام جميع من عرفوا بما حصل في الطبقة الثالثة. لكن الطبيب، الغريب الأطوار على ما يبدو، قال ببلاهة لا تتناسب مع المركز الاجتماعي الذي تفرضه مهنته الإنسانية: «كلّها بوسة كنا عم ناخدها!». وعند هذه العــبارة بالذات، جن جـــنون طوني فـــصفعه على وجهه وتبع ذلك ضربات متلاحقة تناوب على توجيهها له مـــع قــريب آخر. كانت جميلة المذهـــولة طـــوال هذا الوقت لا تستـــوعب ما يجري من حولها. هل هذا حقاً طبيب؟ هل ما حدث قد حدث فعلاً؟
صفعة تلو أخرى وضربة تلو ضربة وصل الطبيب المتحرّش إلى الطبقة الثالثة حيث ركع أمام الجميع واعتذر. أسرع الأمن والمسؤولون في المستشفى لكنهم لم يتدخلوا بعدما علموا بما حصل وحاولوا أن يهدئوا الوضع. لم تشتك جميلة في المخفر. ولم تخبر والديها بما حصل. طلبت من الأقارب الذين وجدوا في المستشفى أن يتكتموا على الحادث من أجل تلافي المشاكل. لكن، من يومها صارت الصبية الرقيقة تتلافى دخول المصاعد مع غرباء. وكلما أرادت أن تدخل مصعداً تضغط على زر الباب، قبل الدخول، ليضاء المصعد وتتأكد أن لا أحدَ في الداخل. سبّب الموضوع أزمة نفسية لها. وضعت على صفحتها الخاصة على «فايسبوك» صورة تحذّر من الركوب في المصعد مع غرباء.
مضت نحو ثلاثة أسابيع على الحادثة. مصادر التعاونية تقول إن الطبيب المتــعاقد مُنع من زيارة المستشفـــيات وفرّغ لأعمال إدارية تغرقه بين الملفات. أما الإجراء التأديبي بحقه فينتـــظر قـــرار مجلس إدارة التعاونية الذي انعقد يوم الجـمعة الماضي. قرار مطلوب بشدّة كي لا يتكـــرر ما حدث مع أخــريات. فلننتظر لنرى.